كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون فما الفائدة في قوله: {واجنبني} عن عبادة الأصنام؟
أجيب: بأنه عليه الصلاة والسلام إنما سأل ذلك هضمًا لنفسه، وإظهارًا للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب، وفي ذلك دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه إياهم. فإن قيل: كان كفار قريش من أبنائه مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام فكيف أجيب دعاؤه؟
أجيب: بأنّ المراد من كان موجودًا حال الدعاء، ولا شبهة أنّ دعوته كانت مجابة فيهم، أو أنّ هذا الدعاء مخصوص بالمؤمنين من أولاده، والدليل عليه أنه قال عليه السلام في آخر الآية: {فمن تبعني فإنه مني}.
وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح}، والصنم المنحوت على خلقة البشر وما كان منحوتًا على غير خلقة البشر فهو وثن، قاله الطبري. ولذا لما سئل ابن عيينة كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال: ما عبد أحد من بني إسماعيل صنمًا، واحتج بقوله تعالى: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام}.
وإنما كانت أنصاب الحجارة لكل قوم قالوا: البيت حجر فحينما نصبنا حجرًا فهو بمنزلة البيت فكانوا يدورون بذلك الحجر، أي: يطوفون به أسابيع تشبيهًا بالكعبة، ويسمونه الدوّار بضم الدال مشدّدة، وقد تفتح، قال الجوهري: دوّار بالضم صنم وقد تفتح فاستحب أن يقال طاف بالبيت، ولا يقال دار بالبيت. قال الرازي: وهذا الجواب ليس بقوي؛ لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله، والحجر كالصنم في ذلك. ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: {رب إنهن}، أي: الأصنام {أضللن كثيرًا من الناس} بعبادتهم لها.
تنبيه:
اتفق كل الفرق على أن قوله: {أضللن} مجاز؛ لأنها جمادات، والجماد لايفعل شيئًا البتة إلا أنه لما حصل عند عبادتها أضيف إليها كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أي: افتتنوا بها واغتروا بسببها ثم قال: {فمن تبعني}، أي: على التوحيد {فإنه مني}، أي: فإنه جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه وقربه مني {ومن عصاني}، أي: في غير الدين {فإنك غفور رحيم} وهذا صريح في طلب الرحمة والمغفرة لأولئك العصاة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثبت حصولها في حق محمد صلى الله عليه وسلم لأنه مأمور بالإقتداء به كما قال تعالى: {واتبع ملة إبراهيم}.
وقيل: إنّ هذا الدعاء كان قبل أن يعلم إبراهيم أنّ الله لايغفر الشرك، وقيل: إنك قادر أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام، وقيل: المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب، فلا يمهلهم حتى يتوبوا، قال الرازي: واعلم أنّ هذه الأوجه ضعيفة، وارتضى ما تقرّر أولًا.
تنبيه:
حكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب من الله تعالى سبعة أمور: الأوّل: طلب من الله تعالى نعمة الأمان، وهو {رب اجعل هذا البلد آمنًا} المطلوب الثاني: أن يرزقه الله تعالى التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} المطلوب الثالث قوله: {ربنا إني أسكنت من ذريتي}، أي: بعض ذريتي أو ذرّية من ذريتي، فحذف المفعول على هذا القول، وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم {بواد} هو وادي مكة المشرفة لكونه في فضاء منخفض بين جبال تجري فيه السيول {غير ذي زرع}، أي: لايكون فيه من الزرع قط، فإنه حجري لا ينبت كقوله تعالى: {قرآنًا عربيًا غير ذي عوج}. بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج {عند بيتك المحرم}، أي: الذي حرمت التعرض له، والتهاون به، وجعلت ما حوله حرمًا لمكانه؛ أو لأنه لم يزل ممنعًا عزيزًا يهابه كل جبار كالشيء المحرّم الذي حقه أن يجتنب؛ أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه؛ أو لأنه حرّم على الطوفان، أي: منع منه كما سمي عتيقًا؛ لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو لأنه أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل، أو لأنه حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض، وحفه بسبعة أملاك، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السادسة، وروي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل، فقالت سارة: كنت أريد أن يهب الله لي ولدًا من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي، وغارت عليهما، وقالت لإبراهيم: بعدهما مني وناشدته بالله أن يخرجهما من عندها، فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هناك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل وقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولاشيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وهو لا يلتفت إليها فقالت له آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذًا لايضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لايرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه وقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي}. حتى بلغ {يشكرون} وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يلتوي، أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى من أحد، فلم تر أحدًا ففعلت ذلك سبع مرّات قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلذلك سعى الناس بينهما» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه، تريد نفسها ثم تسمعت، فسمعت أيضًا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا» قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وأنّ الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية يأتيه السيل فيأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكة، فنظروا طائرًا: فقالوا إننّهذا الطائر ليدور على الماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم قال ابن عباس: قالت ذلك أمّ إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم فشب الغلام وتعلم العربية منهم، وألفهم وأعجبهم حتى شب، فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل وتقدّم تمام هذه القصة في سورة البقرة.
ثم قال: {ربنا ليقيموا الصلاة} اللام لام كي متعلقة بأسكنت، أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي المقفر الذي لا شيء فيه إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرّم، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبرّكين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستعبدين بجوارك الكريم متقرّبين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك، وتكرير النداء وتوسطه للإشعار بأنهما المقصود بالذات من إسكانهم هناك، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها {فاجعل أفئدة}، أي: قلوبًا محترقة بالأشواق {من الناس} ومن للتبعيض، والمعنى: واجعل أفئدة بعض الناس {تهوي}، أي: تميل {إليهم} ويدلّ عليه ما روي عن مجاهد لو قال: أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: {أفئدة من الناس} فهم المسلمون. وقال ابن عباس: لو قال: أفئدة الناس لحنت إليه فارس والروم والناس كلهم. ولما دعا لهم بالدين دعا لهم بالرزق فقال: {وارزقهم من الثمرات} ولم يقل: وارزقهم الثمرات، وذلك يدل على أنّ المطلوب بالدعاء إيصال بعض الثمرات إليهم، ويحتمل أن يكون المراد بإيصال بعض الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات كما قال تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء}.
حتى توجد فيه الفواكه الصيفية والربيعية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجب، وأن يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصل تلك الثمار. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم ذلك رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقًا للحرم. {لعلهم يشكرون} يدلّ على أنّ المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرّغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات، فإنّ إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرّغوا لإقامة الطاعات وأداء الواجبات. ولما طلب عليه السلام من الله تعالى تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهاية الأمور في المستقبل، فإنه تعالى هو العالم بها والمحيط بأسرارها فقال: {ربنا إنك تعلم ما نخفي}، أي: نسر {وما نعلن} وهذا هو المطلوب الرابع: والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا، قيل: ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسماعيل، وما نعلن من البكاء، وقيل: ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قال، ت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا. واختلف في قوله تعالى: {وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء} فقيل: من تتمة قول إبراهيم عليه السلام يعني: وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في، أي: مكان، والأكثرون على أنه قول الله تعالى تصديقًا لإبراهيم فيما قال، كقوله تعالى: {وكذلك يفعلون}.
ولفظة من تفيد الاستغراق، كأنه قيل وما يخفى عليه شيء ما. ولما تم إبراهيم عليه السلام ما دعا به أتبعه الحمد على ما رزقه من النعم بقوله تعالى: {الحمد لله}، أي: المستجمع لصفات الكمال {الذي وهب لي}، أي: أعطاني {على الكبر}، أي: وهب لي وأنا كبير آيس من الولد، قيد الهبة بحال الكبر استعظامًا للنعمة وإظهارًا لما فيه من المعجزة {إسماعيل وإسحاق} ومقدار ذلك السنّ غير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات، فقال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مئة واثنتي عشرة سنة.
فإن قيل: إنّ إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسماعيل وأمّه في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت ما ولد إسحاق، فكيف يمكنه أن يقول ذلك؟
أجيب: بأن هذا يقتضي أنّ إبراهيم إنما ذكر هذا الكلام في زمن آخر لا عقب ما تقدّم من الدعاء. قال الرازي: ويمكن أيضًا أن يقال: إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسماعيل وظهور إسحاق، وإن كان ظاهر الروايات بخلافه انتهى. تنبيه: قوله: {على الكبر} بمعنى مع كقوله:
إني على ما ترين من كبري ** أعلم من حيث يؤكل الكتف

وهو في موضع الحال. ولما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإفصاح والتصريح قال: {إنّ ربي}، أي: المحسن إليّ {لسميع الدعاء}، أي: لمجيبه. فإن قيل: الله تعالى يسمع كل دعاء أجابه أو لم يجبه؟
أجيب: بأن هذا من قولك: سمع الملك كلامي إذا اعتدّ به وقبله، ومنه سمع الله لمن حمده. المطلوب الخامس: قوله: {رب اجعلني مقيم الصلاة}، أي: معدّلًا لها مواظبًا عليها.
تنبيه:
في الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنّ قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام}.
يدل على أنّ ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله تعالى. وقوله: {رب اجعلني مقيم الصلاة} يدل على أنّ فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى، وذلك تصريح بأنّ إبراهيم عليه السلام كان مصرًا على أنّ الكل من الله تعالى، وقوله تعالى: {ومن ذرّيتي} عطف على المنصوب في اجعلني، أي: واجعل بعض ذريتي كذلك؛ لأن كلمة من في قوله: {ومن ذرّيتي} للتبعيض، وأما ذكر هذا التبعيض، فلأنه علم بإعلام الله تعالى أنه يكون في ذرّيته جمع من الكفار وذلك قوله تعالى: {ولا ينال عهدي الظالمين}.
المطلوب السادس: أنه عليه السلام لما دعا الله تعالى في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال: {ربنا وتقبل دعاء}. قال ابن عباس: يريد عبادتي بدليل قوله تعالى: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله}.
وقيل: دعائي المذكور المطلوب السابع قوله: {ربنا}، أي: أيها المالك لأمورنا المدبر لنا {اغفر لي} فإن قيل: إنّ طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة ذنب أجيب: بأن المقصود من ذلك الالتجاء إلى الله تعالى، وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته، ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال: {ولوالديّ} فإن قيل: كيف جاز أن يستغفر لوالديه وكانا كافرين؟
أجيب بوجوه: الأول: أنّ المنع منه لا يعلم إلا بتوقيف، فلعله لم يجد منه منعًا وظنّ كونه جائزًا، الثاني: أراد بوالديه آدم وحواء، الثالث: كان ذلك بشرط الإسلام، وقال بعضهم: كانت أمّه مؤمنة ولذلك خص أباه بالذكر في قوله: {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}.
ثم دعا لمن تبعه في الدين من ذريته وغيرهم بقوله: {وللمؤمنين}، أي: العريقين في هذا الوصف {يوم يقوم}، أي: يبدو ويظهر {الحساب} وقيل: أراد يوم يقوم الناس فيه للحساب، فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهومًا عند السامع، وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة، والله تعالى لا يردّ دعاء خليله إبراهيم عليه السلام، وفيه بشارة عظيمة للمؤمنين بالمغفرة، فنسأل الله تعالى أن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولأحبابنا ولمن نظر في هذا التفسير، ودعا لمن كان سببًا فيه بالمغفرة. ولما بيّن تعالى دلائل التوحيد، ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله تعالى أن يصونه عن الشرك، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة عقبه بقوله تعالى مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون}؛ لأنّ الغفلة معنى يمنع الإنسان عن الوقوف على حقائق الأمور، وقيل: حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، وهذا في حق الله تعالى محال، والمقصود من ذلك التنبيه على أنه ينتقم للمظلوم من الظالم، ففيه وعيد وتهديد للظالم، وإعلام له بأنه لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلًا عنه، وعن سفيان بن عيينة فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا؟ فغضب، وقال: إنما قاله من علمه.
فإن قيل: كيف يليق به صلى الله عليه وسلم أن يحسب الله موصوفًا بالغفلة وهو أعلم الناس به؟
أجيب: بوجوه:
الأوّل: أنّ المراد به التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلًا كقوله: {لا تدع مع الله إلهًا آخر}.
والثاني: أنّ المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم.
والثالث: أنّ المراد ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير.
والرابع: أن يكون هذا الكلام وإن كان خطابًا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر إلا أنه يكون في الحقيقة خطابًا مع الأمّة. ثم بيّن تعالى أنه {إنما يؤخرهم}، أي: عذابهم {ليوم} موصوف بخمس صفات:
الصفة الأولى: قوله تعالى: {تشخص فيه الأبصار}، أي: أبصارهم لا تقرّ مكانها من هول ما ترى في ذلك اليوم.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {مهطعين}، أي: مسرعين إلى الداعي أو مقبلين بأبصارهم لا يطرقون هيبة وخوفًا. وقيل: المهطع الخاضع الذليل الساكن.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {مقنعي رؤوسهم}، أي: رافعيها إذ الإقناع: رفع الرأس إلى فوق، فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعو رؤوسهم إلى السماء، وهذا بخلاف المعتاد؛ لأنّ من يتوقع البلاء يطرق بصره إلى الأرض. وقال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد.
الصفة الرابعة: قوله تعالى: {لا يرتدّ إليهم طرفهم}، أي: بل تثبت عيونهم شاخصة لا يطرفون بعيونهم، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان قد شغلهم ما بين أيديهم.
الصفة الخامسة: قوله تعالى: {وأفئدتهم}، أي: قلوبهم {هؤاء}، أي: خالية من العقل لفرط الحيرة والدهشة. وقال قتادة: خرجت قلوبهم عن صدورهم، فصارت في حناجرهم، فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها.
تنبيه:
اختلفوا في وقت حصول هذه الصفات، فقيل: إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقب وصف ذلك بأنه يقوم الحساب، وقيل: إنها تحصل عندما يتميز فريق عن فريق، فالسعداء يذهبون إلى الجنة والأشقياء إلى النار. وقيل: يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور. قال الرازي: والأوّل أولى. اهـ.